recent
أخبار ساخنة

الدكتور صالح الطائي : مشروع الظل بين النقدية والتاريخية والفلسفية


 مشروع الظل بين النقدية والتاريخية والفلسفية

الدكتور صالح الطائي
إن من يبغي وضع كتاب "مشروع الظل: بني إسرائيل الحقيقيون وصراع الوعي والمصير" لإسماعيل حسانين العمدة على مشرحة النقد عليه الترحال بمشقة وجهد بين التحليل العلمي، والأسلوبي والعمق التاريخي، والرؤية النقدية العامة، والغوص في التاريخية والفلسفية، ولا أعتقد أن قراءة الكتاب بشكل علمي ومهني تنجح إلا بالاستعانة بعدة تحليلات مهمة؛ هي التي يمكن تناول هذا الكتاب من خلالها:
الأول هو التحليل النقدي التفكيكي الذي يغوص في العلمية والأسلوبية والهيكلية والبلاغية للكتاب مع نقد موضوعي لمحتواه.
والثاني هو التحليل التاريخي، والغوص في عمق التراث لاستكناه الواقع.
والثالث هو التحليل الفلسفي الذي يسعى لتفكيك البنى الفكرية للكتاب ومحاكمة مخرجاته.
التحليل الأول: تحليل الكتاب علميا ومنهجيا وأسلوبيا ونقديا
فمن حيث منهجية البحث نجد أن الكاتب اعتمد على منهج نقدي تحليلي متعدد التخصصات تاريخ، آثار، أنثروبولوجيا، علم اجتماع، دراسات دينية. واستند إلى مصادر غربية وعربية متنوعة، لعدد مهم من الباحثين النقديين المهمين. وقدم مقارنة منهجية بين الرواية التوراتية والرواية القرآنية، ثم أبرز الفروقات في مفهوم الهوية والاصطفاء.
أما من حيث الدقة العلمية، فالكتاب يشكك في الرواية التوراتية التقليدية باستخدام الأدلة الأثرية واللغوية والجينية. ولإثبات ذلك سلط الضوء على غياب الأدلة الأثرية لخروج بني إسرائيل من مصر أو وجود مملكة داود وسليمان الموحدة. ولترسيخ هذه الرؤية تناول مسألة "الأسباط الضائعة" وربطها بالتحولات الديموغرافية والهويات المركبة.
وعند تتبع العمق التاريخي لمحتوى الكتاب نجد الباحث قد تتبع تحولات هوية بني إسرائيل عبر العصور، من القبائل البدوية إلى المشروع الصهيوني الحديث. ثم ربط بين الأحداث التاريخية الكبرى من السبي البابلي إلى الشتات إلى الصهيونية، ربط جميع ذلك بالهوية المتغيرة.
ويضعنا التحليل الأسلوبي للكتاب أمام مهمة استجلاء حقيقة لغة الباحث الذي استخدم بمهارة لغة كتابة عربية فصيحة، مع استخدام مصطلحات أكاديمية وتخصصية. وكان يتنقل من الأسلوب السردي إلى الأسلوب الحواري، وفي بعض الأحيان كان يحاول إشراك القارئ في التساؤلات النقدية ويرغبه بذلك من خلال استخدام الاستشهادات القرآنية والتوراتية بشكل مكثف لدعم الحجج.
الكتاب مُقسّم من حيث البناء الهيكلي على فصول وأجزاء واضحة، كل منها يُعنى في جانب محدد مثل التاريخ، الهوية، الأدوات، المشروع الخفي وغيرها. وقد استخدم الباحث العنوانات الفرعية والتقسيمات المنطقية لتسهيل متابعة الأفكار المعقدة. ولتعميق التأثير البلاغي استخدم الاستفهام والتكرار لتأكيد الأفكار الرئيسة الواردة في الكتاب، مع الاعتماد على الصور الرمزية والاستعارات في محاولة لتعميق التحليل.
من هنا نجد عند محاولتنا نقد الكتاب موضوعيا العديد من الإيجابيات التي كانت الجرأة في نقد الروايات التقليدية وتفكيك السرديات المسيطرة من أولاها واهمها وأكثرها وضوحا. تلاها طرح الباحث رؤية بديلة قائمة على القرآن والدراسات النقدية الحديثة. وهذا جعل الكتاب محاولة جادة لفهم الصراع العربي الإسرائيلي بعيدا عن الخطاب السطح أو الصحفيي المتداول.
من هنا أرى ان الكتاب أثرى المكتبة العربية بموضوع شائك ومعقد وبأسلوب منهجي. لكن هذا لا يعني الكمال، فمن المآخذ التي تؤخذ على الكتاب أنه ربما يُوصف بأنه كتاب "تأويلي" أو "نظري" أكثر من كونه وثائقيا بحتا، ولاسيما في فصول "مشروع الظل". فضلا عن ذلك بدت بعض فصول الكتاب وكأنها تعتمد على نظرية المؤامرة في استخلاص النتائج مثل الحديث عن الخزر والماسونية. ومثل أي صاحب مشروع يسعى لنصرة مشروعه ومعتقده أغفل الباحث إغفالا جزئيا ردود نقاشات باحثين يهود أو غربيين لهم وجهات نظر معاكسة. وهذا واضح وصحيح لأن الكتاب كُتب أصلا من منظور نقدي للصهيونية وفيه دعوة لوعي إسلامي بديل.
لكن رغم كل ما تقدم أجد أن الكتاب مشروع فكري طموح حاول تفكيك الرواية الصهيونية وهوية "بني إسرائيل" باستخدام أدوات نقدية متنوعة. وهو كتاب ينماز بعمقه التحليلي وجرأته في طرح أسئلة وجودية حول الهوية والتاريخ والسلطة. وهو رغم بعض المآخذ على المنهجية والانحياز، وهنا أؤكد أن الانحياز أمر نسبي فما يراه الصهاينة انحيازا نراه نحن حقيقة دامغة لا جدال فيها، رغم تلك المآخذ يبقى إضافة قوية للمكتبة العربية والنقاش الفكري حول الصراع والهوية.
التحليل التاريخي
من حيث البنية العامة يتكون الكتاب من عدة أجزاء وفصول مترابطة (أكثر من عشرة أقسام)
ناقش فيها المؤلف أصل بني إسرائيل وسردياتهم التاريخية المتضاربة، وتحدث عن بناء الهوية وكيف تشكّلت هويتهم عبر النصوص، والأساطير، والتحويرات التاريخية، ثم تحدث عن مشروع الظل: أي عن القوة الخفية المهيمنة على المال والإعلام والسياسة. وعن دور النخب والعائلات العابرة للحدود في توجيه النظام العالمي. وعن الهندسة النفسية والسياسية واستخدام الرمزية الدينية، الإعلام، والأزمات المفتعلة لخلق قادة أو منقذين، وعن سعيهم المحموم الأخير لربط الماضي بالحاضر.
من حيث الطابع التاريخي للكتاب فهو ليس دراسة تاريخية محضة، وقد انتقى الباحث أنموذجات مرجعية ليبني عليها استنتاجاته، وقد استخدمها كمرجعيات نقدية للتاريخ التوراتي، مثل كتاب (Shlomo Sand, The Invention of the Jewish People) شلومو ساند، اختراع الشعب اليهودي. وهو كتاب مثير للجدل كتبه مؤرخ إسرائيلي، ناقش فيه فكرة أن الشعب اليهودي ليس جماعة عرقية متصلة، بل هوية تم تشكيلها حديثا لأغراض سياسية. وكتاب (Arthur Koestler, The Thirteenth Tribe) آرثر كوستلر، القبيلة الثالثة عشرة.
وهو يرى أن كثيرا من يهود أوروبا الشرقية ينحدرون من الخزر (قبائل تركية) اعتنقت اليهودية في العصور الوسطى وهؤلاء ليسوا من نسل بني إسرائيل التوراتي. وكتاب (Niels Peter Lemche, The Israelites in History and Tradition) نيلس بيتر ليمشه، الإسرائيليون في التاريخ والتقليد. وليمشه هذا أستاذ في الدراسات التوراتية من الدنمارك، يشكك في السردية التقليدية عن بني إسرائيل، ويرى أنهم لم يكونوا شعبا قوميا موحدا مثلما تصوّرهم التوراة. فجميع هذه الدراسات تشكك في وجود بني إسرائيل كأمة متصلة تاريخيا، وترى أن الهوية اليهودية بُنيت لاحقا بدوافع سياسية.
أما من حيث التاريخ المقارن فقد قارن الباحث مشروع بني إسرائيل بمشاريع قومية أخرى صُنعت عبر السرديات والأساطير مثل القوميات الأوروبية الحديثة، وقد تناول الباحث التعديلات والتحويرات التي خضعت لها نصوص العهد القديم لترسيخ فكرة "الأرض الموعودة".
والفكرة المركزية لهذا المحور أن المؤلف يرى أن بني إسرائيل ليسوا أمة بالمعنى التاريخي المتصل، بل هم مشروع سياسي - ديني جرى توظيفه عبر القرون لصالح قوى نافذة، وأن هذه القوى استمرت في العمل حتى العصر الحديث في صورة "مشروع ظل" عابر للأديان والأمم. وبرأيي أنه استنتاج سليم جدا هناك الكثير من الدلائل التي تدعمه وتؤيده.
أما إذا أردنا معرفة القيمة التاريخية والفكرية للكتاب، فأعتقد أن الكتاب يُمثّل قراءة أيديولوجية نقدية للتاريخ أكثر من كونه توثيقا أرشيفيا، وهذه تحسب له لا عليه. عمل من خلال استنتاجاته على وضع سردية "بني إسرائيل" ضمن إطار "الهويات المُخترعة" التي تحدث عنها المؤرخون المعاصرون هوبسباوم، وساند. ولذا يبدو وكأنه دمج البُعد التاريخي مع نظرية المؤامرة في تفسير مسارات السياسة والاقتصاد العالمي.
التحليل الفلسفي
تناول كتاب مشروع الظل قضايا فلسفية مهمة مثل الهوية، والسلطة، والتاريخ، والدين، والتأويل. وهذا ينفتح على الكثير من المحاور المثيرة تبدأ بمحاولة نقد السرديات التاريخية والهوية لما بعد البنيوية وتفكيك السرديات الكبرى. فالكتاب يعتمد على منهجية تفكيكية تشبه أعمال فوكو ودريدا، حيث يشكك في الروايات التاريخية المسيطرة مثل الرواية التوراتية، بل ويعيد قراءتها عبر منظور قرآني ونقدي مغاير لطبيعتها. فهو في تناوله للهوية كبناء اجتماعي وسياسي، تناول فكرة أن الهوية ليست ثابتة أو جوهرية، بل هي نتاج صراعات القوى والمشاريع السياسية، وهذا مشابه لأفكار هوغوارد وبورديو وغيرهم.
فبورديو من خلال مضامين "رأس المال" و"الهابيتوس" و"العنف الرمزي" كان يرى أن الهوية والموقع في المجتمع ليسا أمرا طبيعيا، بل هما نتاج صراع على أنواع مختلفة من رأس المال الثقافي والاجتماعي والرمزي والاقتصادي.
ورأس المال الرمزي (Symbolic Capital) هو جوهر ما تحدث عنه كتاب مشروع الظل. فالرواية التوراتية التقليدية حول "شعب الله المختار" هي محاولة لتراكم رأس المال الرمزي الهائل. هذا الرأسمال يمنح شرعية وأفضلية وأحقية في الأرض، وفي التاريخ، وفي الدين لفئة معينة هم بنو إسرائيل بالمعنى العرقي. وقد حاول الكتاب تفكيك هذا الرأسمال الرمزي وكشف كيف تم بناؤه لغايات سياسية.
أما العنف الرمزي (Symbolic Violence)، فقد فرض رواية مهيمنة على أنها الرواية الوحيدة الطبيعية والصحيحة، كنوع من الدوغمائية (Dogmatism) والإتباع الأعمى أو التصديق غير النقدي لمعتقدات أو أفكار معينة، سواء كانت دينية، فلسفية، سياسية، أو اجتماعية، دون تمحيص أو نقد. فالشخص الدوغمائي غالبا ما يرفض أي نقاش أو دليل يعارض معتقداته، ويعتبر رأيه مطلقا غير قابل للطعن. مما يجعل الجماعات الخاضعة لنظرية العنف الرمزي تتقبلها دون إدراك أنها مُفبركة. ومن ذلك فرض الرواية الصهيونية عن "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" فهو شكل من العنف الرمزي ضد الوجود والتاريخ الفلسطيني. وقد حاول الكتاب مقاومة هذا العنف من خلال تقديم رواية مضادة.
أما الهابيتوس (Habitus)، فهو مجموعة التصرفات والطباع والتصورات التي يكتسبها الفرد من محيطه الاجتماعي وهي التي تشكل هويته. وقد عملت الصهيونية على خلق "هابيتوس" جديد لليهود في الشتات، كان يسعى لحويل هويتهم من هوية دينية أو ثقافية إلى هوية قومية -سياسية مرتبطة بمشروع دولة. وقد حلل الكتاب هذا التحول في الهابيتوس الجماعي.
وأما أكسل هونيث (Axel Honneth) ونظرية الاعتراف (Theory of Recognition)
فهونيث كان يرى أن الهوية الفردية والجماعية تتشكل من خلال صراع من أجل الاعتراف في ثلاث مجالات، هي على التوالي: المجال العاطفي أو الحب والاهتمام من خلال الاعتراف بالفرد ككائن له احتياجات. والمجال القانوني أو الحقوق من خلال الاعتراف بالفرد ككائن له حقوق متساوية. والمجال المجتمعي، أو التضامن والتقدير الاجتماعي وهو الاعتراف بالفرد أو الجماعة على أن لهم قيمة وقدرات تسهم في المجتمع. والصراع في فلسطين، من هذا المنظور، هو صراع على الاعتراف في أعلى مستوياته، فالرواية الصهيونية أنكرت أساسا وجود الشعب الفلسطيني كما في مقولة غولدا مائير الشهيرة: "لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني". هذا إنكار مطلق للاعتراف في جميع المجالات.
أما من حيث الصراع من أجل الحقوق فنضال الفلسطينيين هو في جوهره صراع من أجل الاعتراف بهم كشعب له حقوق سياسية وتاريخية وقانونية على أرضه. من هنا أرى أن مشروع الظل جاء كمحاولة لاستعادة التقدير الاجتماعي والثقافي، من خلال تقديم رواية مضادة تعيد للهوية الفلسطينية والعربية - الإسلامية قيمتها التاريخية والدينية المسلوبة، وتسلب المشروعية الرمزية من الرواية الصهيونية.
ولإثبات ذلك نرى أن الكتاب لا يقدم الهوية كحقيقة أبدية، بل يحللها كساحة معركة مبتدئا بتفكيك الهوية المهيمنة. فهو يحلل كيف تم بناء هوية بني إسرائيل بالمعنى العرقي- السياسي عبر السرديات الدينية المحرفة والأدلة الأثرية المشكوك فيها والمصالح الاستعمارية عبر صراع القوى. وعمل على كشف الأدوات، فالكتاب يظهر الأدوات التي استخدمت في هذا البناء من الإعلام إلى التعليم والتمويل والمخابرات والقوة العسكرية، بمعنى أنه كشف أدوات المشاريع السياسية. والمهم في الكتاب أنه اقترح تقديم هوية بديلة قائمة على المعيار القرآني أي الهوية الوظيفية القائمة على التقوى والسلوك، وليس النسب العرقي مثلما يراها الصهاينة. وهي رغم كونها هوية مبنية، لكنها في الواقع تقدم نفسها كبديل أخلاقي أكثر عدالة من تلك الهويات الصهيونية الزائفة.
من هنا أرى أن الكتاب تجاوز السؤال التاريخي البسيط "من هم بنو إسرائيل حقًا؟" إلى سؤال فلسفي وسياسي عميق: كيف تُصنع الهويات؟ ولمن تخدم؟ وما الثمن الذي ندفعه عندما نتعامل مع الهويات المصنوعة على أنها هويات طبيعية وجوهرية؟
وبالتالي حسنا فعل الباحث في حديثه عن هذه الفرضيات مقاربة مع أفكار بورديو وهونيث فهي أفكار تمنحنا إطارا نظريا قويا لفهم أن الصراع في فلسطين ليس مجرد صراع على الأرض فحسب، بل هو صراع على المعنى، على الرواية، وعلى الحق في تعريف الذات والآخر، أي أنه بمعنى أشمل صراع على الهوية في أعماقها.
وفي السياق نفسه ربط الكتاب بين السلطة والمعرفة تماما مثل فوكو، من خلال كشف كيف تم استخدام النصوص الدينية والتاريخية لخدمة مصالح سياسية كالصهيونية.
كان فوكو يرى أن المعرفة ليست بريئة أو محايدة، بل هي دائما مرتبطة بعلاقات القوة. ومن يتحكم في إنتاج "الحقيقة" يتحكم في السلطة. ومن منظور فوكو: ليست هناك "حقيقة" مطلقة عن التاريخ أو الدين، بل هناك "أنظمة حقيقة" (Regimes of Truth) يتم إنتاجها ودعمها بواسطة مؤسسات تخصصية مثل الجامعات والمؤسسات الدينية ووسائل الإعلام لخدمة نظام السلطة القائم.
وقد وظف الباحث هذا المعنى ليثبت أن الرواية التوراتية التقليدية عن "شعب الله المختار" ليست مجرد قصة دينية، بل هي نظام حقيقة تم بناؤه. ومن يتحكم في هذه الرواية هي المؤسسات الدينية اليهودية، ثم المشروع الصهيوني، ويكتسب هذا التحديد سلطة رمزية هائلة تُستخدم لتبرير الهيمنة السياسية والاستيطان تحت مظلة أكذوبة "أرض الميعاد".
إن إنكار الرواية الصهيونية للوجود الفلسطيني أو تصويره على أنه "بدائي" هو استخدام للمعرفة بوجه آخر: التاريخ المزيف والسرد الديني الانتقائي لخلق علاقة قوة (الاستيطان، الاحتلال). هنا تجدر الملاحظة أن الخطاب (Discourse) عند فوكو ليس مجرد كلمات، بل هو ممارسة تنظم الطريقة التي نتحدث ونفكر بها في موضوع ما. والخطاب هو الذي يحدد ما يمكن قوله، ومن الذي يحق له الكلام، وما المقبول والمسكوت عنه. ومن منظور فوكو نرى أن الخطاب الديني - التاريخي حول "بني إسرائيل" هو خطاب أنتجته وسيطَرت عليه قوى معينة. وهذا الخطاب يحدد من هو "الإسرائيلي" الحقيقي، وبالتأكيد يستبعد الآخر كالفلسطيني على سبيل المثال. وما "الأرض المقدسة"، ويُهمش تاريخها المتعدد الثقافات والاثنيات. وما السلوك "المختار" ليبرر الاستعلاء والعنف المفرط.
وقد سعى كتاب مشروع الظل إلى تفكيك هذا الخطاب المهيمن. وحلل كيف تم تركيب هذا الخطاب، وما المصالح التي خدمها، وهي بالتأكيد مصالح قومية واستعمارية. ثم اقترح خطابا مضادا (Counter-Discourse) قائما على النص القرآني، الذي يقدم تعريفا مختلفا للهوية والاصطفاء قائم على التقوى، لا على العرق والأحساب والأنساب.
إن الأركيولوجيا (Archaeology) والجينالوجيا (Genealogy) كانتا من مناهج فوكو لكشف كيف تشكلت "أنظمة الحقيقة" عبر التاريخ. فالأركيولوجيا تحفر في طبقات الخطاب نفسه لتفهم قواعده وهيكله. وقد قام كتاب مشروع الظل بأركيولوجيا للخطاب التوراتي والقرآني، مقارنا بينهما ليكشف الاختلافات الجوهرية في تعريف الهوية.
أما الجينالوجيا فهي تبحث في التاريخ السياسي للفكرة أو المفهوم. ومن خلالها يمكن معرفة كيف أن فكرة "شعب الله المختار" العرقي لم تكن دائما موجودة بهذه الصورة، بل تم تطويرها وتحويرها في فترات تاريخية محددة مثل فترة السبي البابلي، أو ما بعدها لخدمة أغراض سياسية مثل الحفاظ على الهوية الجماعية تحت الضغط. فالجينالوجيا تكشف أن المفهوم له تاريخ دموي وصراعي، وليس تاريخا مقدسا ونقيا.
إن السلطة لا تعمل فقط عبر الإكراه، بل تعمل أيضا عبر المؤسسات التي تفرض "الحقيقة" وتنظم السلوك، ومن منظور فوكو أن المدارس والجيوش والسجون وحتى المؤسسات الدينية هي في الواقع أجهزة تُدخل الأفراد في نظام "الحقيقة" السائد. وهذا ما أراد مشروع الظل توضيحه ليؤكد أن المشروع الصهيوني لم يعتمد فقط على النصوص، بل اعتمد أيضا على مؤسسات فرضت خطابه، منها مؤسسات تعليمية تدرس رواية تاريخية واحدة. ومؤسسات إعلامية تكرس صورة معينة. ومؤسسات دينية تقدم تبريرات لاهوتية للدولة. ومؤسسات عسكرية تحمي هذه "الحقيقة" على الأرض. وهذه المؤسسات تجبر الجميع بمن فيهم اليهود أنفسهم على قبول هذه الرواية وتكرارها، مما يخلق "انضباطا" ذاتيا سليقيا.
من هنا أرى أن مشروع الظل نجح في تقديم تحليلا فوكويا ممتازا عندما بين أن "بني إسرائيل" كهوية عرقية مختارة هي "بناء" وليس حقيقة أزلية. وأن هذا البناء هو نتاج تحالف بين المعرفة (النصوص المُؤَوَّلة) والقوة (المشاريع السياسية والإمبريالية). وهذا التحالف هو الذي أنتج خطابا مهيمنا برر الاحتلال والاستيطان وأخفى العنف الذي ارتكب باسمه تحت غطاء من "القداسة" و"الحق التاريخي".
وبرأيي أن مقاومة هذا الخطاب تتطلب تفكيكه جينالوجيا من خلال كشف تاريخه الدموي والصراعي، وأركيولوجيا أيضا من خلال مقارنته بخطابات أخرى، مثل القرآن الكريم، وإنتاج خطاب مضاد يعيد تعريف الهوية والشرعية. وبعبارة أخرى، أرى أن كتاب مشروع الظل سعي ليبين حقيقة أنه لم يتم استخدام النصوص لخدمة السياسة فحسب، بل إن الرواية السياسية الصهيونية هي التي أعادت اختراع النصوص نفسها وفرضت قراءة واحدة لها، محوّلة إياها من نصوص دينية إلى أدلة سياسية في صراع على الأرض والسلطة. وهذا هو جوهر تحليل فوكو للعلاقة بين المعرفة والسلطة.
بهذه المناسبة أرى أن التحدث عن الدولة كأداة هيمنة ممكن أن يُظهر كيف تم استخدام فكرة "الدولة اليهودية" كأداة للهيمنة والاستعمار الاستيطاني، تأثرا بأفكار أنطونيو غرامشي وإدوارد سعيد عن هيمنة الدولة.
إن أفكار أنطونيو غرامشي حول الهيمنة (Hegemony)، وأفكار إدوارد سعيد حول الاستشراق (Orientalism) والامبريالية الثقافية تقدم أدواتا تحليلية قوية لفهم كيف تم استخدام النصوص الدينية والتاريخية لخدمة المشروع الصهيوني، وهو ما تناوله كتاب مشروع الظل بشكل عملي.
إن الهيمنة عند غرامشي لم تعد مجرد سيطرة بالقوة العسكرية أو القمع والإكراه، بل هي سيطرة من خلال الإقناع الثقافي والفكري. حيث تهيمن الطبقة الحاكمة عندما تنجح في جعل قيمها وأفكارها ومصالحها تبدو وكأنها "الطبيعي" و"العام" و"المصلحة المشتركة" للجميع، حتى للطبقات المسيطَر عليها.
وقد طُبقت هذه الفكرة لخدمة المشروع الصهيوني من خلال الهيمنة على الرواية التاريخية، إذ عمل المشروع الصهيوني على تحويل رواياته الأسطورية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، "الشعب المختار"، "الحق التاريخي" من مجرد روايات قومية لليهود إلى روايات مسيطرة ومقبولة على نطاق عالمي. وبعد نجاح هذا التحويل أصبحت هذه الروايات هي "الحقيقة" السائدة في الإعلام الغربي، والأوساط الأكاديمية، والسياسة الدولية، واسقطت جميع الروايات المضادة لها. وقد نجحوا في ذلك من خلال الهيمنة عبر المؤسسات، فاستخدمت الهيمنة مؤسسات عديدة لترسيخ نفسها، بدأ بالإعلام الذي صور إسرائيل كأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وصور الفلسطينيين كإرهابيين حقيقيين أو محتملين. والتعليم، بعد أن دست الرواية الصهيونية في مناهج التعليم على أنها تاريخ موضوعي. والثقافة، التي روجت لها أفلام هوليود وكتب الترويج المتنوعة للرواية الصهيونية. والقوة والرضا، وهي حقيقة قسرية إكراهية تجبر الإنسان على التخلي عن بعض أصدق قناعاته لأسباب قاهرة، فالفلسطيني الذي يضطر للعمل في مستوطنة إسرائيلية، أو المثقف العربي الذي يتبنى خطاب "التطبيع" كحقيقة لا مفر منها، هم أمثلة على كيف تنتج الهيمنة "رضا" المقموعين بأنفسهم عن وضعهم، لأن البديل يبدو مستحيلاً أو غير عقلاني، او مستحيل التحقيق.
وقد جاء كتاب مشروع الظل ليكسر الهيمنة الصهيونية ويضع (بني إسرائيل الحقيقيون) في مواجهة الهيمنة، فالكتاب يسعى إلى كشف الطبيعة المُنْتَجة والمصطنعة للرواية الصهيونية، وإظهار أنها ليست "حقيقة طبيعية". ويعمل بجد على إحياء الرواية المضادة، أقصد بها الرواية القرآنية والتاريخية النقدية والفلسطينية، وإعادتها إلى دائرة النقاش كبديل شرعي للرواية المُنتَجَة. فضلا عن ذلك سعى الكتاب وراء خلق "وعي طبقي" ثقافي بالمعنى الغرامشي، بين العرب والمسلمين، علهم يدركون من خلاله أنهم ليسوا طرفا ضعيفا في حرب عسكرية فحسب، بل في حرب مواقع (War of Position) ثقافية وفكرية طويلة الأمد ضد هيمنة فكرية مسلحة.
لقد طور إدوارد سعيد مفهوم الاستشراق (Orientalism) لوصف كيف قام الغرب باختراع صورةٍ للشرق العربي الإسلامي على أنه متخلف وغريب واستبدادي وشهواني. هذه الصورة لم تكن بريئة بالمرة، بل كانت أداةً لتبرير الهيمنة والسيطرة الاستعمارية عليه. أما كيف طُبِّقت لخدمة المشروع الصهيوني فمن خلال تصويرهم إسرائيل في الخطاب الغربي وبشكل دائم على أنها جيب للتحضر والحداثة والديمقراطية، وانها ممثلة للقيم الغربية والأوربية في محيط من "التخلف" و"الهمجية" و "الشهوانية" العربية. فهذا تصور استشراقي بحت، قسم العالم إلى ثنائيات متضادة: متقدم/متخلف، عقلاني/عاطفي، مسالم/عنيف. ومعنى هذا أن الإطار الاستشراقي هو الذي حدد كيفية رواية القصة، فبين أن الإسرائيلي هو الضحية التاريخية (الهولوكوست) وهو البطل الذي سوف يجعل الصحراء تزهر. وبين قبالة ذلك أن العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص هو الإرهابي المعتدي الغوغائي، أو في أفضل الأحوال، الضحية التي يجب إنقاذها من قادته ومن نفسه، لا من غيرهم. وكان إدوارد سعيد يرى أن الصهيونية هي أحد أشكال الاستشراق، لأنها نظرت إلى فلسطين على أنها أرض بلا شعب تنتظر شعبا متحضرا أوروبيا ليستغلها. وهذا يعني أن الرواية الاستشراقية تجاهلت تماما الوجود والحضارة الفلسطينية.
من هنا أرى أن كتاب مشروع الظل هو مشروع مضاد للاستشراق (Anti-Orientalist) بامتياز، فهو نقض الرواية الغربية ـ الصهيونية عن المنطقة وتاريخها، وأعاد الفاعلية للرواية العربية والإسلامية، وأصر على أن لها الحق في تفسير تاريخها ونصوصها بنفسها، وكشف التحالف بين المعرفة الاستشراقية مثل بعض الدراسات التوراتية الغربية والسلطة الاستعمارية وهو ما يمثل الدعم الغربي لإسرائيل.
وقد استخدم الكتاب في قسم "بني إسرائيل الحقيقيون" جميع هذه الأدوات ليكشف أن المشروع الصهيوني هو مشروع هيمنة استعماري استيطاني، نجح إلى حد كبير في فرض روايته على العالم باستخدام آليات القوة الناعمة متمثلة بالثقافة والدين والتاريخ، والقوة الصلبة (الجيش، الاحتلال)، مستندا إلى تمييز استشراقي بين "متحضر" و"متخلف".
وبهذا يكون الكتاب قد وظف التأويلية الهرمينوطيقية ليعيد تفسير النصوص الدينية ليس القرآن وحده بل والتوراة أيضا لتقديم رؤية بديلة عن "بني إسرائيل"، مما يجعل الكتاب مشروعا تأويليا يسعى لكشف الانزياح الأيديولوجي في القراءات السائدة.
أما عن الدين والأيديولوجيا فقد طرح الكتاب إشكالية توظيف الدين لأغراض سياسية، وهو موضوع كلاسيكي في فلسفة الدين.
وفي محور الأخلاق والعدالة التاريخية، وتحديدا فيما يخص العدالة التعويضية والذاكرة فقد سعى الكتاب إلى إعادة الاعتبار للرواية الفلسطينية والهوية العربية الإسلامية، مما يجعله مشروعا أخلاقيا وسياسيا يسعى لتصحيح الظلم التاريخي وإحقاق الحقيقة وكشف زيف الروايات المتداولة التي رسخها التعاون بين الاستعمار والاستشراق. وقد تحدى الكتاب الاستثنائية اليهودية من خلال فكرة "الشعب المختار" من منظور أخلاقي وإنساني، معتمدا على رؤية قرآنية تُقدّم الاصطفاء على أساس التقوى لا النسب.
وقد لمح الكتاب إلى تشظي الهويات في العصر الحديث مثل يهود الأشكناز والسفارديم، وكيف يتم توحيدهم قسريا تحت هوية مصطنعة جامعة (الصهيونية). وأشار إلى دور الإعلام والتمويل العالمي في صناعة الهويات وفرض السرديات، وهو نقد يقترب من أفكار نعوم تشومسكي وهربرت شيللر. وأكد على غياب الأدلة الأثرية والتاريخية القاطعة للرواية التوراتية، مما جعله يقترب من موقف ما بعد حداثي يشكك في إمكانية الوصول إلى "الحقيقة التاريخية" المطلقة. وقدم روايات متعددة ومتنافسة عن تاريخ بني إسرائيل، معتبرا أن التاريخ هو ساحة صراع على المعنى والسلطة.
إن كتاب مشروع الظل لا يقتصر على النقد، بل قدم مشروعا إسلاميا بديلا قائما على الوعي والاستنارة والهوية القرآنية، وهذا يجعله مشروعا نهضويا يحمل بُعدا فلسفيا إصلاحيا كبيرا. من هنا أرى أنه يندرج ضمن المشاريع الفكرية العربية والإسلامية المعاصرة التي تسعى إلى تحرير العقل من الهيمنة الفكرية والثقافية الغربية والصهيونية.
وفي بُعد آخر هناك حقيقة أرى وجوب التحدث عنها طالما أن لها علاقة مضمونية بالكتاب، وهي أن الباحث الأستاذ إسماعيل حسانين العمدة مثلما أخبرني بنفسه من أصول صوفية، وفي الأقل هذا ما يفهم من كتابه الموسوم "بيت من بيوت الصوفية: رحلة في عالم التصوف" الذي ابان فيه أنه ينحدر من عائلة صوفية كانت ولا زالت تتمسك بمنهج التصوف كطريق عبادي، وفي مثل هذه الحالة لا يعقل أن لا تكون هناك إشارات صوفية في كتاب مشروع الظل. وأنا في الواقع وجدت هناك إشارات صوفية ضمنيةً، وليس عرضا مفصلا للتصوف، لكنها تظهر في سياق تحليل الهوية والرمزية والبعد الغيبي للصراع.
فالكتاب تناول فكرة أن بعض القصص الدينية مثل خروج بني إسرائيل من مصر قد تكون رمزية أو باطنية وليست تاريخية بحتة، وهذا يتقاطع مع المنهج الصوفي في البحث عن المعاني الخفية والنفحات الإلهية وراء النصوص الظاهرة. لكنه في الوقت نفسه يرفض الهوية العرقية المغلقـة لبني إسرائيل ويميل نحو هوية قائمة على السلوك والأخلاق والتقوى، وهذا يتوافق مع الرؤية الصوفية للهوية كمسيرة روحية وليس انتماءً قوميا. وفي الجزء الخاص بالخرسانيين (ص 53 ـ 55)، ذكر الكتاب أنهم جماعات يهودية في إيران وأفغانستان كانت لهم توجهات صوفية واهتمامات بالكابالا أي التصوف اليهودي، وحتى التصوف الإسلامي. وهذه الإشارة توحي بأن هناك تقاطعات بين التصوف اليهودي والإسلامي، وأن بعض الجماعات حاولت إعادة تعريف هوية بني إسرائيل بطريقة روحية غير تقليدية.
وقد نقد الكتاب توظيف الدين لأغراض سياسية مثل تبرير الاحتلال، ودعا إلى فهم أخلاقي وروحي للنصوص، وهو نقد يقترب من موقف العديد من الصوفيين الذين رفضوا تحالف الدين مع السلطة.
كما دعا الكتاب إلى مشروع وعي جديد للأمة، يعيد ربطها بمقاصد الوحي ويحررها من السرديات المهيمنة. وهذه الدعوة تحمل بصمة صوفية في تركيزها على "النهضة الداخلية" قبل المواجهة الخارجية.
وما تحصلت عليه عن علاقة الكتاب بالتصوف أنه وإن كان لم يقدم تصوفا صريحًا، إلا أنه استعار بعض أدوات التصوف التحليلية، مثل: البحث عن المعنى الباطني. ورفض الهوية القائمة على النسب. ونقد توظيف الدين سياسيا. والدعوة إلى وعي روحي أعمق. فهذه الإشارات وإن كانت تخدم هدف الكتاب الرئيس في تفكيك السردية الصهيونية وعرض بديل إسلامي يركز على الجوهر الأخلاقي والروحي للهوية بدلاً من الانتماء العرقي أو الجغرافي المغلق.، إلا أن فيها قبسات صوفية.
صدر الكتاب بواقع 401 صفحة عن التجمع العربي للنشر والتوزيع في مصر عام 2025، وقد أهداني المؤلف نسخة منه أثناء نشاطنا الأدبي الذي أقمناه في القاهرة في شهر آب من عام 2025.
أبارك للباحث الثبت إسماعيل العمدة هذا التألق المعرفي، وأتمنى ان تتبنى بعض المؤسسات التي تدعم القضية الفلسطينية نشر هذا الكتاب في أوسع نطاق لأنه يعري الصهيونية وينصر القضية.
google-playkhamsatmostaqltradent